منوعات

الكاتب الجزائري محمود عياشي يكتب ل”ريجيستا” رماد الشرق أو خريف نيويورك الأخير..واسيني الأعرج

يتخذ واسيني هذه المَرَّة‌َ الحدثَ منطلقاً ولأهميته كان نفسه حبكة الحكاية الأكثر إثارة للجدل،وهي تفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك، ولاحاجة لتذكيرالقارئ بذلك التاريخ المرعب والذي لايقل شهرة عن واقعة ناكازاكي والثورة الفرنسية او تسونامي وغيرها من الأحداث التي أحدثت تغييرا جذريا فيما بعدها من أحداث،وشغلت الرأي العام والإعلام.. ولاشك أن كاتبنا انتقل بنا إلى عين المكان وكان حاضرا بعدّته على أهبة الاستعدادقبيل الانفجار ربما بنصف ساعة.. هذه المرة اختار أن يكون شاهدا على الحدث معاصرا له حاضرا في حيثياته وليس محققا يأتي عقب الحدث ينقب في الآثار وتفاصيل مخلفات الحوادث، وقد اجتهد كثيرا وتعب في اختيار قصة من بين آلاف القصص التي عاصرت الانفجار مشتركة معه في المكان، نيويورك تلك المدينة المعقدة بشوارعها وأجناسها وتضاريسها وأبراجها وحركتها الدائمة وأضوائها وبحيرتها وبيئتها وطقوسها الخاصّة، كان له مطلق الحرية أن يختار أبطالا آخرين يعيشون على هامش الحدث وسيختارالمكان على برج مستثنى من لعنة التفجير، ووقع اختياره على البطل جاز وحبيبته ميترا، لم أعجب كثيرا لاختياره الأرضية الموسيقية بعناية فائقة وكان البطل قائد الأركيسترا يضع اللمسات الأخيرة لسمفونيته التي سيهديها جده الذي عاصرطغيان الاستعمار وجبروته ولخص معاناة قرن كامل بتفاصيله المرهقة وكان بصدد تلقينا لفتاة اللحن وعمل البروفة، ليتدخل الحدث الرئيسي هنا لحظة التفجير ويعلن الكاتب الانطلاق الرسميّ لتأزّم الأحداث والتغيّرات الجذرية المفرطة الصادمةعلى مستوى الشخصيات داخليا وخارجيا.. تكسرخشب الكمان.. تمزق الأوتار.. تزحزح البيانو.. سقوط لوحة خريف نيويورك وتفتت زجاجها إلى آلاف القطع الصَّغيرة.. تعطل حاسّة السمع، الذهول، الإحساس بالخوف والذهول والاختناق، الرغبة في الهروب إلى المجهول، لأن الانفجار كان مهولاً والمشهد لا يحتمله العسكر المدربون في الميدان فكيف سيقوى على معايشته عن كثب فنّان ممتلئ بالموسيقى يتأمل بروحه الشفافة الشّمس تسطع على زجاج الأبراج الشاهقة، يضع يده على كتف امرأة تسندإلى صدرها الكمان تغمض عينيها وتستجمع خيالها وأحاسيسها لتسكب اللحن بإحساس، بعدما حاولت عدةمرات متغلبةعلى فشلها، وقدكنت كأي قارئ أنتظر بلهفة أن تتجاوز ذلك الإخفاق الصعب وتنطق اللحن بإحساس صاف، لكن الكاتب أدخل طرفا من المشهد في تلك اللحظة، حتى تلقيت التحطّم نفسيا قبل أن أستفيق على الفاجعة، بل جعلني أعيش معهما اللحظات المرعبة كأول مرّة وهذا إدهاش جنونيّ لم تكن إلا اللغة وحدها صانعة الانطلاقة المميزة فيها ومحفّزا يشدّك بلا هوادة لما بعدها من تسارع وتباطؤ فيما يجري على الأبطال من أقدارٍ، وطبعا يشرع الكاتب في توزيع المعلومة والتحليل مشمرا عن ساعده، ويلاحظ استعداده التّامّ لإمداد المشهد بغزارة المعلومة المضبوطة والتوجيه الملائم للحصول عليها بعفوية وبلا تكلّف، كذلك امتلاء كل فكرة من رافد بعيد ينهل من تاريخ متجذّر، حتى يتمكن القارئ من الإشباع لفهم التطرّف الذي أصبح لغة العالم الحديث رغم تستره بستار المدنية والتقدّم والسلام.
أكيد أن الكاتب واع لمدى صوته وقد صُنِّف من بين خمس أصوات روائيةعالمية، وقلم له وزنه، يصل إلى شرائح وطبقات كثيرة مثقفة عبر ترجمات أعماله للغات كثيرة، ومن بين الّلغات الانجليزيّة والعبريّة، لذلك سيقول كلمته ويبديرأي هويضع تحليله وتوقعاته على ضوء الحدث على مستوى السياسة والأدب والاجتماع، لذلك نجده يغتنم الفرصة الذهبية لفلسفة التطرف الذي ألحق ظلما بالإسلام والعرب وهم في أوج ضعفهم وتشتتهم وضياعهم، آثر إذن أن ينتقل إلى دائرة الحدث وبوتقة الأزمة وينشئ منصّته ويوجّه إلى العاَلم صوتَه كما يفعل مُراسلٌ له وزنه لقناة لها مصداقيتها كبي بي سي على سبيل المثال ويتحرّى نقل الفكرة باحترافية صوت ٍروائيّ، ونقول الفكرة؛ لأن الفكرة بعدالحدث وبعد الخبر ومافيه من فبركة وادعاء وكذب وتهويل وتهم، تتكون لدى الشعوب خلفيات، وقبل أن تكون معتقدا يحاول التدخل بما أوتي من وزن كالندوة الصحفية العاجلة للإجابة على كلّ لبس والردّ على كلّ مغالطة، كان حاضرا في ميدانه كمثقف لديه مكانته ومكانه وحضوره الأدبي العالمي، وليس من المعقول أن يخرس حيث يجب أن يدلي بشهادته ورأيه وموقفه، أما زمن صدور الرواية فتأخره معقول جدا بخلاف لو كان شاعرا مثلا، فالقصيدة عادة لاتتأخرعن الموعد!
طرق الحصول على المعلومة في الرواية تقليدية وفيها مشقة وتكلّف، لكن ذكية ومتطورة، يحاول أن يكون عفويّافي ذلك في خلق المناسبةخلقا(زيارةالمعرض) ثم تستوقفه الصور وكتاب مراسلات الشريف حسين مع (السيرهنري ماكماهون) ويضعنا في مدخل المشهد الرئيسيّ لبوّابة تاريخ تجزئة البلاد العربية ليتمكّن من خلال (جاز) من التطرّق لأهم العوامل بأريحية وكثير من الأناة، تلك المساحة بدت لي فضفاضةًأخذت مزيدا من الزمن على حساب ما ينتظره القارئ من تسلسل للأحداث بمزيد من التشتيت، وقد كان عليه أن يقسم الخرجة الذهنية لاسترجاع أهم حوادث الحقبة الحرجة بعد موعد العشاء مع ميترا في مطعم (شيكاغو) ورقصة التانغو وكثير من اللهو والويسكي، …
تلك الفرقة المتكونة من مئة عازف ستتحول كلها أمواجا من الأصوات الهارمونيّة المتداخلة والإيقاعات المتفاوتة لتتحدّث بالتاريخ الذي لايقال إلا شفرةً فيمثل ذاك المكان وذاك الظرف من تلك المنطقة، حقيقة لم أستوعب فكرة أن يفهم المتذوق حقائق ومعلوماتٍ مدفونةً في بطون المجلّدات والوثائق، ونسبة كبيرة منها في طيات المعاهدات السريّة، ونقض لمعاهدات وخيانات وجرائم واعتقالات وتعذيب ومشانق وكروب.. كيف ستحول لغةً خاصة وتجري على الأوتار وتترجمها آذان المختصين الخواص إلى معنى ثم تؤوَّل كلاما وتحلّل على سبيل الافتراض إلى حقائق ومعلومات مجددا.. الأمريصعب استيعابه!
وهنايضعنا الكاتب أمام رهان صعب حساس: أن نصبر معه إلى النهاية، أن نتقمّص البطل في محنته _ إضافة إلى لحظات مرحه_ لنستلهم معه فقرات خصصها لنا فنقرأ سويا من المراجع، وشخصيا وجدت متعة في الرجوع إلى كل معلومة من مصدرها الذي يشير إليه، والرجل ليس سهلا في اكتساب المعلومة التاريخية التي تخدم نصه ووجهته وقناعته، إنها خوارزميّة بين الحقيقةالتاريخية والفكرة المكونة بعدتشظيها وتحليلها تأتي مضغوطةً ليضعها في مكانها لتتشكل من الكلّ صورة في النهاية مزيج من الخطوط والألوان، كمانقرأ لوحة معقّدة لواقعة أو معركة مثقلة بالتفاصيل .
ثم يسترسل الكاتب في بسط حيثيات المعضلة باستدعاء شخصية الجد(شريف) الذي كان محورَ الحكايةِ وأَساسَها، وخزنة أسرارها وصندوقَ عجائبها، وكعادة واسيني لابد من استعراض الوثائق اللازمة للمرافعة بالقضايا العادلة في حضرة التاريخ المجيد، ينسج لنا خيوط الأحداث على لسان بطل عايش ظروف تحرر الأمة العربية وانفصالهاعن الامبراطورية العثمانية، بدء بشنق أبيه على يد السفّاح جمال باشا وقد رأى بأمّ عينيه ذلك المشهد بمعيّة والدته،وقد أرفق الشّهادة الشّفوية بصورة اقشعرّلها(جاز) لحظة مشاهدة نسخة منها في المعرض الذي أقامته (علياء) وزميلتها (جوديت) ، وينهمر الجدّ في سرد ذكرياته التي شملت رقعةً شاسعةً في الرواية، وهواختصارٌ ومراجعةٌ لكثيرٍ من مراجع تلك الحقبة، لاتتأتّى لغير باحث غيور صبور، وقد طالت جدّا حدّ الثقل والكلل لولا أنه أغرانا بحبكة فيها قليل من الحب والشغف، يتخللها كثير من الحوار وتغيير زوايا الخطاب وطيّ بعض الأزمنة المرهقة بأحداثها المأساوية، ووصف المدينة التي برع فيه حدّ الإدهاش، كلتلك الآليات والفنيات كانت لفتح ملفات ثقيلة كانت بالنسبة لجاز رهانه الأكبرفيقطع مسافة طويلة بين (نيويورك) و(توليدو) التي تشبه كثيرا طليطلة بالأندلس، يتعرف القارئ عن كثب مخازي بنود سايكس بيكو ووعد بلفور، وهشاشة القائدالعربي ممثلافي شخصية (الملك الفيصل) الذي وقع في معركة غيرمتكافئة بين فرنسا وبريطانيا، امبراطوريتين شرستين تنهشان تركة الرجل المريض، بفرض شروط مجحفة جعلته بين خيارين أحلاهمامرّ : الاستسلام أو مواصلة الكفاح بجيش مشتت ومعدات قليلة وذخيرة نفدت في أولى جولاتها، كثرة الشخصيات وتنوع التواريخ الضرورية وذكر فقرات عديدة وبنود استدعتها المناسبة أثقلت كاهل الرواية واخرجتها في كثيرمن المواضع عن سياق السّرد إلى ما يشبه البحث التاريخي وما يتبعه من تحليل سياسيٍّ وآراءوتقييم.
مايُثقل النصّ في نظري هو كثرة التّفاصيلِ التي استدعت أسماء أماكن أجنبيَّةً : هودسون/مانهاتن /لينكولن/ نيوجرسي / بروكلين /أمستردام /البروتكس /سنترالبارك / الماديسون /أومبيرستيتبولدينغ.
ومن المصطلحات :الأوتونازيا / يوتوبيا / ويطا / الهاغانا /البروتكس /هارلم / روسريتل / النظامالأكوستيكي /الماجيستيك /الفيلارامون/ مارانوس/ المكارثيّة /الكونسرفتوار /الكوميديةالموسيقية / تانغو ..
وبالمقابل نجد الكاتب منحازاً بواقعيّة ووعيٍ إلى أديولوجيّةٍ وجذور جزائريّة من خلال إبراز دور المغاربة في الكفاح جنبا إلى جنب في معركة تحرير الشّام وعلى رأسهم حفدة الأميرعبد القادر وتملّكهم زمام القيادة، أماعلى صعيد اللغة فلا تخفى روحُه وشخصيّة الجزائريّ الّذي جعلها تبدو كفلتاتٍ لسانٍ يذوقها القارئ كنوع من الطّعم الّذي يتذوّقه السّامع فيميّز من النّبْر المقامَ والسُلَّم والطّبعَ؛منها على سبيل المثالِ :
مبعوجة –متسرسب – جرجروني – يبولونفيسراويلهم – الكسورات – ذرْذَرْتها – تين معسكر – صينيّة قسنطينيّة – فولة وانقسمت على اثنين – ابريق شاي بالنعناع – العرعار – مطارح –لاله عويشة – خَزْرته – ومن بعد؟ – ربما كان أبلَدَ ما خلق !-قوّاد الألمان – ماتخافشْ – هوبلا – المازوزيّة – ميمون لقواطي – يتمتْرس – اللي بقى في عمره نهار مات – يرشف – ملح الأرض ياوليدي – التلبيس- يستأهل كل خير – مردوماً –مثل الأطرش في الزفّة –تلوة القهوة – فلي شعري ..
ونجد واقعيّة في جمل ينطقها الأميرفيصل تعرب عن بداوته مثل قوله :
نحن لسنا طراطير – تفو – الخرا – يبدو أنني كنت أبول في الرّبع الخالي – المشكلة مش هوني ..
أمافي سياق مخاطبته من طرف ساطع الحصري أوغيره نادى بطويل العمر، وهوإطلاق خليجيّ محض .
وهنا ككثير من الجمل الشّاميّة : كرمي لعماتي ( كرمالهم )
نيّهله ( نيّاله ).
وقد أورد كلمة (تتسطَّح)في سياق الفصحى :
يمكنك أن تتسطَّحَ .
أمّا المقولة المصريّة فقدحوّلها للفصحى لعدم وجود شخصيّة مصريّةفي النصّ،كمثل قوله: ونحن نخرج من المولد بلاحمّص..
يضطرّ أحياناً إلى استيراد المصطلح العلمي ليكون واضحاً في مثل ( مصباح الهالوجين) ،والرّكوة (تركيّة) المجمر .
ولم أقف على خطأ فيما أظنَّ إلّا في قوله ص 402:
أن يكون فيصل بن الحسين ملكا عليها .
– ومن المقولات التي أعجبتني:
– لا يمكن لمدينة أن تقاومَ بدون رمز أو قائدٍ
– ماذا يبقى حينما تنتهي الرموز؟!
– لاتكن بطلا مردوما تحت التراب، وأنت بإمكانك أن تكون حيًّا وقادراً على الحصول على حقِّكَ !
-إنّها رواية جديرة بالقراءة والاحتفاء لأهميّتها وجدواها في التّأريخ لأهمّ مراحل نهضة أمّتنا وانكسارها، وتصوير حجم الظّلم والتّعسّف الذي طالها،وأخطائها المنهجيّة الّتي وقعت فيها إبّان تكوينها وتكالب الأعداء عليها لقمع شعوبها ونهب خيراتها لإبقائها تحت الهيمنة والسّيطرة، فإذاحاولت التّصدّي لذلك قوبلت بالتقسيم والتّقزيم وإثقالها بكلّ عوامل الهزيمة والتّخلّف والانحطاط، ثمّ تشويهها بأنّهاصانعة التّطرّف ومهاجمة الغرب .. فأيّ غبن يقع على كاهلها؟! وأيّ دور ينتظرالكاتب في نفي ذلك وتبديده؟!
لقد حاول بكلّ ماأوتي قلمه من قوّة وبراعةٍ،وقد أثبت له التّاريخ ذلك الشّرف والمجد بلا منازع !
الاثنين 11 جويلية 202

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: عذرا.. النسخ ممنوع