منوعات

الكاتب الجزائري محمود عياشي يكتب ل”ريجيستا”

ليالي إيزيس كوبيا- واسيني الأعرج

ما قرأت لواسيني الأعرج إلا فرشت أعصابي للتزود بالمعنى واستجلاء الفنّ من مقتدر ، ذلك القلم الذي لا ينضب ولا ينكسر في كف صاحبه مطواعا سخيّا!
وهذه المرّة ألقاني قدر القراءة بين أحضان روايته الرهيبة (ليالي إيزيس كوبيا) أو (ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية)
وتبدأ القصة كفكرة تراود كاتبنا لتحقيق وجمع ملابسات محنة الأديبة الشهيرة (مي زيادة ) تلك التي ظلمت وهمّشت في أواخر حياتها فصوّر ببراعة كيف انقلب مجدها رأسا على عقب وتنكّر لها ذوو القربى وكادوا لها ، بينما صمت أصدقاؤها الذين تزاحموا على صالونها ووقفوا بين يديها منشدين ومحاضرين ومحاورين ، ودبّجوا لها الرسائل والبطاقات من أدباء مصر .
يقول إن مذكراتها في مشفى العصفورية النفسي التي خطٌتها تحت القهر والخوف والخيبة بقلم الرصاص على أوراق من رزمة على طاولة لم يسمح لها بها إلا بعد معاناة سجلت فيها دقائق لوعتها بصدق .
كعادة واسيني في منجزاته الروائية احتاج إلى سيناريو محكم وذكي ودقيق لتحويل ما قرأه في هذا الموضوع وهو قارئ فذ باحث – إلى سرد ينبع من ذات البطلة تحكيه ضمن سياقه التاريخي المرتَّب. ، وهو جهد مضن شاق ، لا يحتمل من الكاتب أدنى هفوة في الصياغة أو المعلومة أو حتى في إبداء الرأي والتحليل ، وأحاط البطلة بالشخصيات الفاعلة التي فعّلت الحوار في كثير من التشويق .
ومنذ البداية جعلني كأيّ قارئ أستعجل العثور على المخطوطة السرية الضائعة وقد كان بارعا جدا في اللعب على أعصاب القارئ ، ولم يتدخّل هو إلا من خلال شخصية ياسين الأبيض ، أما مرافقته (روز) فتبدو حقيقية ، وقد امتدت رحلة البحث عدّة صفحات مضنية شائكة ، واختار مقاطع رئيسية لميّ أغلبها مأخوذ من مقالات أمين الريحاني وهو بمثابة الخزنة الرئيسية التي استقى منها المعلومة ، قد يرى الواحد منا أنه من السهل أن تحول الكلام المحكيّ عن البطل إلى كلام يسرده أمامك مباشرة ، فأمين يحكي عن زيارته لمي فيوقف الكاتب بالسلطة الممنوحة له ككاتب أن يبدل الأدوار كعمل المخرجين ، وقد أشار واسيني في صفحاته الاخيرة بشكر الذين يظنون العمل الروائي سهلا ، خاصة في مثل هذه الحالة ، كانت الحقبة عظيمة الحوادث غزيرة التعقيد مملوءة بالمعارك والمناقشات ، فاستوجب عليه أن يتنقل إلى ذلك الارشيف بالتنقيب والترتيب والمناظرة والموازنة ، وهذا عمل شاق بالطبع ، لان الكاتب فيه لا يكتب عن شخصية من بنات خياله يخلع عليها ما يشاء من نفسه دون أن يتدخل في عمله أحد ، بل عمل لا يقل أهمية وحساسية عن عمل المؤرخ الدؤوب الذي يضع أمامه هدف الانتصار لبطله وأخذ الحق من خصومه مهما بلغت التكاليف .
ووجدتني أتساءل إذا كان الكاتب هنا حمل على عاتقه الانتصار لمي من غرمائها بعد ست وسبعين سنة من وفاتها ، وقد تفنن في كشف كثير من الملابسات والقضايا وسلط الاضواء على زوايا معتمة من السراديب والأقبية المعبأة بأسرار المشاهير وامورهم الشخصية التي يتحاشون إظهارها لقرائهم ومتابعيهم .
كان الكاتب بالتأكيد محققا يأخذ أطراف ذلك من كلامهم المنشور في مقالات الجرائد والكتب والرّسائل والقصاصات ، لذلك أضاف مغلَّفا من الوثائق والمتعلقات المهمة للمخطوطة دفع فيه 500 يورو هذه المادّة أرجح أنها أهم من فكرة المخطوطة ذاتها .
ركّز الكاتب على شخصيّة العقّاد كثيراً لأهميتها في مجريات أحداث القصّة ، وقد صدمتني معلومات أو استنتاجات شخصيّة شجاعة جدا ، علّق عنها بعضهم بالقاسية ، وشخصيا أجد غضاضة في تقبّلها بل في طرحها للعلن عارية ، وهي محاولته إنشاء علاقة جسدية محرّمة مع مي ، وتمنّعا لأن قلبها لغيره ، وأنّ لديه عدداً من الخليلات !
كما فوجئت من الكاتب عدم التطرق لعلاقة الرافعي بها ، رغم أهميتها وبسطها في المصادر بوضوح ومملوءة بالأحداث الأدبية والصراعات الشخصية التي تثري المشهد التراجيدي للبطلة ، بل فاجأني مروره البارد المقتضب ، وما كان للبطلة إذ تقمصها أن لا تسرد أحداث ورسائل رسائل الأحزان ، وتبعاته ، حتى الرسالة التي زعموا أن الرافعي نحلها لمي وادعى أنها أرسلته إليها كان من المنتظر أن يقوّلها في شأنها كلاما سواء بالتأكيد أو التفنيد كما تفرضه رؤيته ككاتب وقناعته بالطبع.
فقد قرأت في كتاب حياة الرافعي أنه كان بينهما مراسلات وعتابات ، فلا يعقل أن تضرب هي عنه صفحا دون شيء من التفصيل ، خاصة وأنه توفي في تلك المرحلة ، وإذا كانت ردة فعل متصورة ضدّ سكوت أدباء مصر السلبيّ ، فلمَ استثُني طه حسين والعقّاد وتأثيرهما في نظري ليس أكثر من تأثيره فيها ؟! أرجح أنها غفلة غير مقصودة ، خاصة وأن الكاتب نشر مقالا بهذا الخصوص أي حب الرافعي لمي ذلك الحب الخائب العنيف الذي استفاد منه صاحبنا أدبيا وكتب على ناره كتبه الثلاثة كما يرجّح الكثير ..
يعشق الرّافعيُّ فيكتب فيها ولها رسائلَ الأحزانِ ويباهي به طه حسين ويلمز العقَّادَ ، ويهجوه بنقدٍ لاذعٍ لا هوادةَ فيه ويقدح في شعرِهِ ، ويؤلّف ( على السفُّود ) ويكتب العقّاد قصّة ( سارة ) ويغار من جبرانَ غيرةً شعواءَ مريرةً فينقده ويهزأ منه ويسفّه شعره وصوره ومعانيه وأخيلته ، كلّ ذلك وأكثر منه لأجل عيني تلك الآنسة المتقدة الذّكاء البارعة في الأدب والخطابة والتّرجمة والفنّ ، وما كان ليوصفَ مثلُها بسوءٍ أو يشيع عنها ميوعة او ابتذالٍ ، إنّما اتقدت الغيرة في الرّجل الشّرقيِّ وغلبه اليأس فحال دون مناله فطالها بعض الوصف الشّانئ المغرض ، لكن السّمعةَ الأدبيَّةَ أقوى من أيِّ تقوُّلٍ أو ظنٍّ !
كانت ظاهرةً جديرةً بالتَّأَمُّلِ ؛ تصلح جدّاً أن تكون البطلَة التي تجتمع عندها قضايا الأدب ومصائر السّياسة ومشكلات الاجتماعِ ؛ وكيف لا وعندها تجتمع الخصوم والأعداء ، وتطرح الانشغالات وتحتدم الحواراتُ ، وتكتب بمقتضاها المقالات والنقائض وتقرع السيوف والكؤوس ، وتدور دواليب الفكر والأدب .. لذلك اقتنص كاتبنا الفكرةَ وجسّمها ، ثمّ نفخ فيها من روحه ، وبعثها بيننا تاريخا حيَّا ، وبثَّ على لسانها خلاصة بحثه بلغة ليست كالَّذي دوَّنها تاريخها الأوَّلُ !
– في كلِّ أديب وصحفيٍّ وسياسيِّ وفنّان وشخصيّة مرموقة ارتاد صالونَها وعرفها عن كثَب نسخة من ميٍّ خاصة به ، يجدها من إقباله عليه دون سواه في لحظة أو ساعة أو رسالة يتلقّاها كما يهوى ويتمنّى ، ولم تكن الأصليَّةُ إِلَّا لابنِ عمِّها الّذي خانها مَرَّتينِ ؛بزواجه من فرنسيّةٍ ثمّ باستيلائه على ممتلكاتها وزجّها وحيدةً في محنتها ، وكانت نسخة أخرى منها تنفصم لتلتقي بجبرانَ الّذي يبعد عنها بآلاف الأميال ويختلف عنها في فلسفة التّحرُّر والمخالَّةِ ، فكانت علاقةً خياليَّة تستمدّ من اللغة وهماً هو في الأخير حبرٌ على ورقٍ !
يا للمفارقة المحيِّرةِ : لقد جسّدت اللعبة الوجوديّةَ في أقسى تمظهراتها ، وعاشت شعلةً ملهمة للجميع ، لم يظهر على الساحة غيرها الفاعل رغم تعدّد النّساء في حياة كلّ رجل منهم ، لكنّ الأمر معقود على النّبوغ والتَّفرُّدِ والموهبة والجمال بالتّأكيد !
امرأة عاشت للحبّ وصنعت حياةً على مقاسها ، ثمَّ عاقبتها هذه الحياة بالحرمان منها ، ولا يُفَسَّر صمتُ هؤلاء عن المؤازرة إلا وجها من ذلك الحرمان وهكذا الأقدار !
في رأيي تذكّر التواريخ بدقَّة لا تتأتّى لمن يكتب من ذاكرته ، لذلك أرى أنه لو أثبت التواريخ والتعليقات الجانبية في الهامش على غرار باقي المعلومات التي أثبتها في الأسفل ، وحبّذا لو أورد بعض المعلومات في المتن على سبيل الظّن ، ثم يثبت تحقيقها في الهامش ، ذلك ادعى أن يتحقق عند القارئ أنّ هناك نصّا بخطّ الكاتبة لا يتدخّل فيه الروائيّ بأيّ شكلٍ من أشكال التَّصويب أو التَّعديل ِ !
هناك أمثال وكلمات جزائريّة جاءت على لسان البطلة مثل ( معلهش ) لا أظنّها شاميَّة أو مصريَّةً ، وتصوير الضّحكة أيضا (هههههه) فإنّها نتاج التّواصل الحديث !
لكن لا أظنّ الكاتب غافلا عّما يثبت ، فهو يريد إمضاءه يندسُّ بين طيّات السّطور !
أحسنتَ جدَّا أيُّها الكاتب الفذُّ !
07 جوان 2022

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: عذرا.. النسخ ممنوع